عن هجرة أطبائنا إلى فرنسا
نجاح أكثر من ألف طبيب جزائري، في مسابقات دولية، لأجل الالتحاق بفرنسا، لينضمّوا إلى قرابة خمسة عشر ألف طبيب ممارِس هناك، هو طعنةٌ أخرى في ظهر الصحة والجامعة الجزائرية، التي ما زالت تنجب أصحاب البدلة البيضاء بكفاءة كبيرة، ولكن بنهاية سوداء، على قطاع الصحة الجزائري، الذي يحاول أن يتطوّر من خلال المنشآت والأجهزة الطبية المستورَدة من الخارج ضمن مشاريعه المستقبلية، ويُهمل الإنسان الذي هو مصدر أسباب الصحة والعلاج.
هناك مفارقة عجيبة ومُحرجة تحدث في الجزائر، دون غيرها من البلدان، عندما يصبح أمل آلاف الأطباء هو العمل في أوربا، موازاة مع أمل آلاف المرضى في التداوي في أوربا.
هذه المفارقة البائسة حدثت في تركيا منذ أكثر من عقدين، إذ كان بمجرد أن يتخرج الأطباء من كليات أزمير وأنقرة واسطنبول حتى يحملون حقائبهم ووثائقهم، ويطيرون إلى ألمانيا أو النمسا بحثا عن التوظيف، والتخلي عن جنسيتهم التركية، بينما لا يجد مرضى البلاد بما فيهم المسؤولون الكبار، أي حرج في الانتقال للتداوي في مستشفيات بون وميونيخ وبرلين وفرانكفورت، ولكن الثورة التركية الطبية التي صارت حديث بلاد الغرب، بدأت في تعديل المعادلة المقلوبة، من خلال الاستعانة بأبناء تركيا وإعادتهم إلى البلاد، وتوفير الإمكانات، فأثمرت الثورة مكاسبَ تاريخية وراقية، تحولت إلى فوائد اجتماعية واقتصادية، إلى درجة أن بعض التخصصات الطبية في تركيا صارت تُشَدُّ إليها الرحال من كل بلاد العالم، وحتى من ألمانيا نفسها.
دعونا نتفق على أن كليات الطب في الجزائر، هي حاليا من أندر الكليات التي حافظت على قيمتها العلمية، ولكن هذا لا يعني أن نتنازل عن ثروتنا بهذه السهولة، فالأمر ليس بتصديرٍ للكفاءات، لأن الطرف الثاني يجني ثمارا لم يبذل قطرة عرق ولا قطرة ماء في بعثها.
وإذا كان الفرنسيون يقيمون الدنيا ولا يقعدونها عندما يخطف المنتخبُ الوطني لاعبا موهوبا واحدا من مدارسهم الكروية وهو من أصول جزائرية، فكيف لنا أن نصمت ونحن نتابع هذا الخطف المقنَّن لأطباء، وبالآلاف وبشكل دائم من مدارسنا وكلياتنا من الذين ''بسملوا'' في المدارس التحضيرية، و''حمدوا الله'' بعد تسلمهم الشهادة من كلية الطب في قسنطينة أو العاصمة أو وهران أو غيرها، وأنهوها بـ ''بونجور'' و''بونسوار'' فرنسا؟
لا يمكن أن يكون انتقال هذا العدد الكبير من الأطباء من الجزائر إلى فرنسا مبعثا للفخر بالأدمغة الوطنية، وإشادة بالكليات الجزائرية، فهو لا يختلف عن عمليات نهب الآثار والتراث الوطني، وقد قال رئيس الجمهورية وهو محق في ذلك إن الأطباء الجزائريين من أحسن الكفاءات في العالم، ولكن يجب على مسئولي الصحة أن لا يكتفوا بمتابعة تألق هؤلاء في مخابر ومستشفيات العالم، لأن الأمر في منتهى البساطة هو تقديم رأس مالنا للآخرين بالمجان، وستبقى الصورة البيضاء.. سوداء.
بقلم عبد الناصر بن عيسى عن موقع الشروق